الثلاثاء، 19 مايو 2009

فــي حـضـرة الــغـيــا ب للــــشـــا عـــر مــحــمــو د د ر و يــــش


في هذا الكتاب للشاعر الفلسطيني الخالد فينا أبد الدهر
محمود درويش
سأحاول أن أنتقي لكم بعضا من النصوص الواردة فيه
ولمن لا يعرف كثيرا عن هذا الكتاب

في حضرة الغياب

فهو مجموعة من النصوص الشعرية المتعددة الإيقاع والنبرة واللغة يضعنا الشاعر في مناخ غني متجدد
خصب كأنه بين الاعتراف، وبين الجرح، وبين الغياب،
وبين الحدود القصوى للتجربة. كأنه في نصه الجديد على حافة "الهاوية" الخلابة، وتلك التي تستدعي ما يخلبها، ومن يخجلها، الى مستور النص، وما في تضاعيفه، وما في ايماءاته، وما في عنفه وشفافياته.

واليكم بعض النصوص


ألحبُّ كالمعاني على قارعة الطريق. لكنه كالشعر صعب،
تعوزه الموهبةُ والمكابدةُ والصوغُ الماهر، لكثرة ما فيه من
مراتب. لا يكفي أن تحبّ- فذلك فعلٌ من أفعال
الطبيعة السحرية، كهطول المطر واشتعال البرق، يأخذكَ
منكَ إلى مدار الآخر لتتدبر أمرك بنفسك. لا يكفي أن
تحبّ، بل عليك أن تعرف كيف تحبّ. فهل عرفت؟ لم
تستطع الإجابة لأنك لا تستطيع استعادة الرعشات التي
هزَّتك وبعثرتك على نزوات الليلك، وكهرَبَتكَ وعذبتك
بمذاق العسل الحارق. ولا تستطيع استرجاع أكثر أطوار
الموت عذوبة وحياة، حيث غادرتكَ "أنا"ك إلى أنثاك
لملاقاة نفسك الطازجة فيها كالثمرة الناضجة.


تلك اللحظات، حين تسترجعها الكلمات، عصيَّةٌ على
رفع الجسد إلى مقام الروح. من منّا لم يقل لأنثاهُ: "لا
وجود لي إلا فيك" وكنا صادقين؟ وكنا صادقين أيضاً
حين وجدنا وجودنا في قول مشابه وفي مكان آخر. فهل
عرفتَ كيف تحب؟ لم تستطع الإجابة، ربما لأنك لم
تتبيّن أحوال الحسّ المتنقل في الفوارق بين: الحب والعشق،
والولع والوله، والهوى والجوى، والشغف والدنف، والهيام
والغرام، والشبق والنزوة، والصبوة والشهوة، والإعجاب
والإنجذاب.. وغيرها من التباس الصفات على الرغبات.
لكلّ مرتبةٍ حالٌ من أحوال الجسد، ولكل حالٍ من أحوال
الجسد مرتبةٌ بين موت وحياة. فلا تعرف أين كنت
وكيف كنت.


لكنك الآن، إذ تشرف على حياتك إشراف البحّار على
خيبته من أسرار البحر التي لا تدرك، وتسأل: أين مينائي؟
تحار من عودة قلبك سالماً صلباً كحبّة سفرجل صعبة
القضم. فلماذا بكيتَ إذا لأن العذراء لم تكن عذراء قرب
الشجرة التي سبقكَ إليها أحدُ مُروضي الريح؟ ولماذا
بكيت ثانيةً لأن الثانيةَ لم تفتح لك الباب، وأنت واقف
في الزمهرير مرتجفاً من الذل، لا من البرد الذي أوقد
مدفأتك؟ ولماذا بكيتَ مرةً ثالثةً، لأن الثالثة سافرت، دون
أن تنتبه إلى أنك كنت تعانق وسادة، لا جسداً من حرير
وريش نعام؟


لا حبّ- تقول- لأن لا حبَّ يشبه حباً، ولا تعريف
لقوة الجاذبية التي تخلع الكائن من كيانه، فلا يسأل عن
ذاته وقد اغتربت، وعن حريّته وقد اقتربت من عبوديّة
مختارة: أنا لك. بخصلةِ شعرٍ طائشةٍ في الريح تنتقل
الجبال من أمكنتها. وبشفتين مفتوحتين تنضج بساتينُ
الكرز في غير أوانها. وبكلمة لا معنى لها يُنصبك التأويلُ
ملكاً على عرش الهباء.


وأنت، أنت الممسوس بتيار كهرباء تسير على غير هدى،
على أثر ما يتساقط من أوراقك، تدور بك العاصفة
والعاطفة، وتدور بهما، ولا تدري إن كنت حزيناً أم فرحاً
لأن الالتباس الذي أنت فيه هو الإحساس بخفة الأرض
وبغلبة القلب على المعرفة. وستدرك فيما بعد أن الحب،
حُبك، هو أوله. في أول الحب، تكون معدّا، كآلة
موسيقية، لإطاعة الهواء في ما يملي عليك من تأليف: كل
نسمة نغمة، وكل سكون صلاة شكر. وتكون مُعداً أيضاً
لاستطلاع ليليّ لكلّ نأمة تفد إليك من ديار النجمة.
فأطل هذا الأول، أول الحب، ليمتثل الخيال لك امتثال
الفرس للفارس، ولتغزوك اللغة وتغزوها كرجل وامرأة
يتسابقان على استضافة المجهول بكرم الطاعة المتبادلة.


في أول الحبِّ تنهمرُ عليك المطالعُ، زرقاء زرقاء. وفي أوج
الحب تحياه، وينساك وتنساه ويُنسيك المطالع. وفي آخر
الحب تطيل النظر إلى الساعة. وفي الغياب تعثر المطالع
على المواجع المترسبة في خلوّ الغرفة من كأس النبيذ
الثانية، ومن شال أزرق، فتمتلئ القصيدة بما ينقصها.
وحين تكملها بنقصان مفتوح على أخرى، تبرأ من ذكرى
ومن ندم ولا يصدأ فيك الذهب. كأن الكتابة، كالحب،
بنتُ السحابة إن أمسكت بها ذابت. وكأن العبارة لا
تتحفز إلا لتعويض خسارة. فتتجلى صورة الحب هناك:
في غياب كثيف الحضور.


وحين تخرج من نفسك، كأنك أنت، وتنظر إليك من
بعيد كأنك هُوَ: واقفاً تحت المطر، على شارع مزدحم
بالمارة، وفي يدك باقة ورد أحمر، لا تشعر بالبرد، بل
بسخريةٍ من وقفتك الزائغة. وتتساءل: هل كان حُبّا أم
شهوة، هل كان عشقاً أم شبقاً؟ وتنسى شعورك.. تنساه
ولا تبحث عنه، فلا تتألم ولا تندم، بل تكتفي بالسلام
عليه، عن بعد، وهو ينتقل إلى ذكرى بعيدة لا تُؤَرّق،
ذكرى تتحكم بها كما تتحكم بجهاز الفيديو: تضعُ
النهاية في البداية، أو تثبت الصورة على ضرورات القلب
المتقلب.


وتضحك خجلا من كلام تمادى في مديح الشبق حتى
احترق: يبدأ من القدمين المنحوتتين بقطعة شمس، فإلى
أعلى يلمع البرق من ساقين مسكوبتين بقلق المهارات،
فأعلى إلى الركبتين المصَنّفتين كمعجزتين، فإلى أعلى:
البطن- الموج في حالة جزر، فأعلى: يبدأ الغروب
تدريجياً بامتصاصك بَنهمٍ نبيلٍ خَفِر، فتُقبل وتُدبِرُ وتعلو
وتهبد وتعرق وتشهق وتغرق في ليل ساخن العتمة فاتن.
يداك أو يداها- لا تدري- تلمانك وتحملانك كنسرٍ
أغمي عليه في فضاء يدلف كواكب.. فتنظر إلى العينين
نصف المفتوحتين على عينين نصف مغمضتين، ليتأكد
كل منكما أنه ينبتُ في الآخر.


لكن أحداً لا يسكن الذروة، تسقطان دفعةً واحدة من
أعلى سماء إلى نعاسٍ مبلل بالرذاذ. تهمسان بصمت
واحد، بلا شيءٍ أوضحَ من أي شيء. وتحلمان معاً، وعلى
حدة، بأن يستمر هذا العناق إلى الأبد، إلى أن يتضح
لكما أن لهذا الأبد عمراً قصير الأمد، وأن الأبدية لا
تنصاع إلى أحد، فهي كثيرة التداول والانتقال من لحظة
إلى أخرى، ومن حالة إلى سواها.


وأنت الذي لا تعرف الحب إلا عندما تحب، لا تسأل ما
هو ولا تبحث عنه. لكن امرأة سألتك إن كنت تحب
الحب ذاته، فتملصت وتخلصت من حيرة الجواب،
وقلت: أُحبُّكِ أنتِ. فألحت: ألا تحب الحب، فقلت:
أحبك أنت لذاتك، فانصرفت عنك لأنك لا تؤتمن على
غيابها. ليس الحبُّ فكرة. إنه عاطفة تسخن وتبرد وتأتي
وتذهب. عاطفة تتجسد في شكل وقوام، وله خمسُ
حواس وأكثر. يطلع علينا أحيانا في شكل ملاكٍ ذي
أجنحة خفيفة قادرة على اقتلاعنا من الأرض. ويجتاحنا
أحيانا في شكل ثور يطرحنا أرضا وينصرف. ويهبُّ
أحيانا أخرى في شكل عاصفة نتعرف إليها من آثارها
المدمرة. وينزل علينا أحياناً في شكل ندى ليليّ حين تحلب
يدٌ سحريةٌ غيمةً شاردة.


لكن هذه الأشكال كلها تجتمع في امرأة، حسية مرئية،
ملموسة محسوسة، لا في فكرة. فنحبّ الشكل الجاذب،
وينكبُّ الخيال على تفحّص ما فيه من غموض وغرائب.
أما الأرواح فتتعارف وتتآلف حول الشكل المتلألئ
بالجوهر. وقد تختلف على تأويل ما يقول الجسد للجسد،
فتنصرف إلى شفافية أخرى وتحل في أجسادٍ أكثر امتلاءً
بالماء ولاتناغم والموسيقى. ألحبّ هو المتحولُ المُتَنقلُ
العصيُّ على الهوية. هو الانخطاف الذي يلتبس فيه
الشغف مع الإشراق. هو ما لا تعرف وتعرف أنك لا
تعرف. هو اكتمال المعنى باللامعنى من فرط جنوحه إلى
المجانية وتبذير الحضور. وهو نقيض التكرار والإلحاح على
إصلاح الهواء واللون، وإلا صار زواجاً تحلُّ فيه صيانةُ
الكلام من الزلل محلّ الارتجال الضروريّ لشعرٍ لا يقوم
الحب إلا عليه، فلا يصلح نثر التدبير المنزلي لإبقاء
إجاصتين طازجتين على طبق المرمر، ولتحريض المجهول
على إغلاق الطريق أمام المعلوم. لا بد من سرّ، لا بد من
سرّ دائم، ليبقى الحب مفاجأة وهدية، فلا تفتح خزانة
ثيابها الملأى بأسرار طباعها!


وإن خمد الشغف ابتعد الحب، رويداً رويداً، إلى نهار
الصداقة. وتقول لها: ما أجمل الصداقة حين نشيخ معاً،
وأتكئ عليك وتتكئين عليّ، وأرحمك وترحمينني في
دار العجزة حيث لا نقوى على التذكر. لكني أوثر أن
أعتمد على عكازي، لا عليك. ولا أريد أن أرى روميو
وجولييت، ولا قيساً وليلى، أمامي في أرذل العمر. للحبّ
تاريخ انتهاء، كما للعمر وكما للمعلبات والأدوية. لكني
أفضل سقوط الحب، بسكتة قلبية، في أوج الشبق
والشغف، كما يسقط حصان من جبل إلى هاوية.


سألتكَ: من هيَ، فقلت: لا اعرفها من فرط تعددها في
واحدة. هي ولا هي. هي وهُنّ إذا اجتمعن في قصيدة
حب كثيرة المصادر، تتوزعها ضروراتُ البحث عن تحقق
ما لا يتحقق، وعن نداء يغمرنا دون أن ندرك أنه لم
يصل، وعن تجدد العطش أمام النبع. هي ولا هي إن
حضرت وإن غابت، فكأن حضورها غيابي فيها، وكأن
غيابها حضورُ التفاصيل. لكنها تنتشر بعدة أسماء، فلا
أدري إن كانت هي هي، أم من نساء مخيلتي ورغباتي
المتبدلة. لذلك يبدو أنها اختراع، لأني لا أخطئ
بالأسماء، فلا أنادي غيرها باسمها الذي نسيته من قلة
الاستعمال.


وسألتك: لم تعرفْ، إذاً، كيف تحب؟ فأدهشني قولكَ:
ما الحبُّ؟ كأنني لم أحب إلا عندما كان يخيل لي أنني
أحب.. كأن تخطفني من نافذة قطار تلويحةُ يد، ربما
لم تكن مرسلة إليّ، فأولتها وقبّلتُها عن بعد.. وكأن أرى
على مدخل دار السينما فتاةً تنتظر أحداً، فأتخيل أني ذاك
الأحد، وأختار مقعدي إلى جوارها، وأراني وأراها على
الشاشة في مشهد عاطفيّ، لا يعنيني أن أفرح أو
أحزن من نهاية الفيلم. فأنا أبحث في ما بعد النهاية عنها.
ولا أجدها إلى جواري منذ أنزلت الستارة.

وسألتك: هل كنت تمثِّل يا صاحبي؟

قلتَ لي: كنتُ أخترعُ الحب عند الضرورة/ حين أسير
وحيداً على ضفة النهر/ أو كلما ارتفعت نسبة الملح في
جسدي كنت أخترع النهر...

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق